حركة غير معتادة شهدتها مدينة مونتارجيس الواقعة في منطقة “لو لواريه” على بعد 120 كيلومترا من العاصمة باريس جنوبا الثلاثاء حيث نظمت النقابات العمالية يوم احتجاج عاشر للتنديد بقانون التقاعد الذي قامت الحكومة الفرنسية بتمريره باعتماد المادة 49.3 من الدستور، والتي تسمح بتمرير القوانين بدون مصادقة برلمانية.
واختارت فرانس24 هذه المدينة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 15000 نسمة، كونها عرفت في 2017 مظاهرات واحتجاجات عنيفة نظمتها “السترات الصفراء” التي احتلت لأيام عديدة أحد مفترق الطرق الرئيسية الذي يؤدي إلى وسط المدينة، ولكون أيضا هذه البلدة من أفقر البلدات في منطقة “لو لواريه” (وسط فرنسا) ويقطنها نسبة كبيرة من المسنين والمتقاعدين البسطاء.
انطلقت المظاهرة عند الساعة العاشرة ونصف صباحا من ساحة “باتيس” حيث جابت الشوارع الرئيسية للمدينة في ظل جو هادئ وغير عنيف. فيما رفع المتظاهرون شعارات مناهضة للرئيس إيمانويل ماكرون، واصفين إياه “بالرجل الذي لا يصغي لشعبه ولا يبالي بهمومه”.
يجب أن”نفكر في طرق جديدة للاحتجاج تكون أكثر فعالية“
ومن بين الشعارات التي رفعت خلال المظاهرة: “لقد ناضلنا من أجل الحصول على حق التقاعد في عمر الستين، وسنواصل من أجل الحفاظ على هذا الحق”، “أرباب العمل حصلوا على أكثر من 60 مليار يورو من الأرباح في حين العمال والموظفين لم يحصلوا سوى على المادة 49.3”.
وقال دياو عنابي، ممثل نقابة “القوة العاملة” “لم نر الكم الهائل من المتظاهرين (هو يتحدث عن حولي 2000 شخص) منذ مظاهرات 2006 في ظل حكومة دو فيلبان. سكان مدينة مونتارجيس خرجوا للتعبير عن غضبهم إزاء طريقة تمرير قانون نظام إصلاح التقاعد عبر المادة 49.3 وللتنديد بارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية”.
كما أشار إلى أن “قانون التقاعد الجديد يؤثر بشكل أكبر بالسلب على سكان المدن الصغيرة كمدينة مونتارجيس، بسبب عدم توفر فرص العمل فيها وتواجد عدد أكبر من العائلات الفقيرة والبسيطة”. ودعا هذا المسؤول النقابي إلى “التفكير في طرق جديدة للاحتجاج تكون أكثر فعالية وتحقق الأهداف المرجوة، لأن بعض المتظاهرين ينتابهم شعور بأن التظاهر لن يأتي بشيء”.
وتجدر الإشارة إلى أن المظاهرات المنددة بقانون التقاعد الجديد لا تقتصر فقط على المدن الكبرى مثل باريس ومرسيليا أو ليون بل تمتد لبلدات صغيرة وقرى فرنسية ريفية أو جبلية أصبحت هي الأخرى مسرحا لهذه الاحتجاجات التي يساندها حوالي 70 بالمئة من الشعب الفرنسي.
“المصرفي يبقى مصرفيا حتى لو أصبح رئيسا للجمهورية“
من جهتها، وبالرغم من أنها في إجازة مرضية إلا أن زبيدة (60 عاما) جاءت لكي تتظاهر بشكل سري كونها لا تملك الحق في الخروج من منزلها. وقالت لفرانس24: “أرفض قانون التقاعد الجديد لأنه يرغمني على العمل سنتين إضافيتين وهذا شيء لا أستطيع القيام به لأنني مريضة”.
وأضافت: “هذه هي المرة العاشرة التي أشارك في التظاهر وسأستمر في الاحتجاج لغاية أن يقرر السيد ماكرون تبديل موقفه ويسحب قانونه. الشعب ضده وليس أمامه خيار آخر غير الاستماع للشعب”، مشيرة إلى أن “ماكرون يحمي الأغنياء والشركات الكبرى ولا ينظر إلى الضعفاء والموظفين بشكل خاص رغم أنهم هم الذين يسيرون البلاد”.
وأنهت زبيدة: “المصرفي (في إشارة إلى وظيفة ماكرون السابقة) يبقى مصرفيا حتى وإن أصبح رئيسا للجمهورية. لن يتغير، بل حياتي الخاصة التي تتغير دائما بسبب القوانين التي يمررونها بالقوة ورغما عن الشعب الذي انتخبهم”.
فقر وبطالة مرتفعة بمدنية مونتارجيس
أما جوليا التي تعمل كمعلمة في مدرسة ابتدائية، فبدأت تشعر بأن نوعا من العنف -على الأقل اللفظي- بدأ يبدو في المظاهرات التي تنظم بمدينة مونتارجيس، لأن الناس “يشعرون بأن الحكومة لا تستجيب لمطلبهم الوحيد والمتمثل في سحب قانون التقاعد، وذلك رغم تنظيم عشر مظاهرات في أجواء عادية هادئة”.
وقالت لفرانس24: “سنستمر في التظاهر طالما هناك أمل لكن عندما نستمع إلى خطابات الرئيس ماكرون وننظر إلى الطريقة التي يتعامل بها، نشعر بأن الأمل يبتعد. ماكرون يهاجمنا بكلامه وبالعبارات التي يستخدمها. أما إليزابيث بورن فتريد الآن الحوار مع النقابات على مواضيع أخرى وليس على الموضوع الذي يهمنا كلنا، ألا وهو سحب قانون التقاعد الجديد”.
وواصلت:” هذا التصرف الإزدرائي جعل بعض المتظاهرين يصعّدون من لهجتهم ويتساءلون هل المظاهرات السلمية كافية للتأثير على ماكرون وحكومته؟”.
وتعد مدينة مونتارجيس الواقعة وسط فرنسا من بين أفقر المدن في منطقة “لو لواريه”. فلا يتواجد في هذه البلدة الزراعية سوى شركتين كبيرتين. الشركة الأولى هي “سانوفي” المتخصصة في صناعة الأدوية وشركة “هاتشنسون” لصناعة إطارات السيارات.
هذا الوضع الاقتصادي وانعدام الاستثمار أديا إلى ارتفاع نسبة البطالة فيها إلى حوالي 10 بالمئة بينما النسبة على المستوى الوطني لا تتعدى عتبة 6 بالمئة.
“يجب أن نصعّد من احتجاجاتنا للحصول على حقوقنا“
هذا ما جعل حسب عادل عدد كبير من الناس يشاركون في المظاهرات العشر التي نظمت في هذه المدينة التي يصفها البعض بـ”أفقر مدينة ” بفرنسا. غالبية المتظاهرين هم موظفون في القطاعات العامة كالبلديات والمدارس والمستشفيات وقطاع الصحة.
عادل يشارك للمرة الرابعة في المظاهرات، لكنه يرى بأنه من الضروري تصعّيد وتيرة الاحتجاجات لكي تستمع الحكومة لهم.
وقال لفرانس24: “الديمقراطية هي الشعب. يجب إذن الاستماع للشعب. نحن لن نقبل بهذا القانون (يقصد القانون التقاعدي الجديد). إيمانويل ماكرون ليس رجلا ديمقراطيا. أعتقد أن التصعيد هو الوسيلة الوحيدة التي ستجعل ماكرون يتراجع عن قانونه. بدون تصعيد لن نحصل على أي شيء. يمكن أن ننظم مئات المظاهرات مثل اليوم في مونتارجيس بدون أن يُحرك أي مسؤول حكومي ساكنا. نحن نواجه يوميا عنفا اجتماعيا بسبب القوانين الممررة، لذا يتوجب علينا أن نصعّد من احتجاجنا للحصول على حقوقنا”.
“هل يتحتم علينا أن نموت في مواقع عملنا؟“
وتابع “يجب إسقاط الحكومة”، وعندما سألناه كيف ذلك، أجاب: “بمهاجمة قوات الأمن فقط. لا داعي لكسر شيء ما، لأن الشرطة هي التي تتعدى على المتظاهرين، فهي لا تستهدف الأشخاص المتطرفين والعنيفين فقط بل كافة الناس بدون تفرقة”. فإذا كانت المظاهرات السلمية لم تأت بأي نتيجة ملموسة، يجب ربما المرور إلى مرحلة أخرى”، حسب رأيه.
وأنهى: “إذا تركنا القانون الجديد يطبق، فهذا يعني بأن الحكومات المقبلة ستقوم أيضا برفع سن التقاعد إلى 66 عاما أو 68 عاما. فهل يتحتم علينا أن نموت في مواقع عملنا؟”.
أما مواطن آخر رفض ذكر اسمه، فلقد انتقد مسؤولي الاتحاد الأوروبي واتهمهم بالوقوف وراء قرار رفع سن التقاعد في فرنسا إلى 64 عاما والتأثير على إيمانويل ماكرون.
وقال لفرانس24: “الاتحاد الأوروبي مؤسسة غير ديمقراطية. الجميع يعرف ذلك”، داعيا المتظاهرين وجميع الفرنسيين إلى عدم السماع “إلى وسائل الإعلام الفرنسية، لأنها لا تقول الحقيقة بل تساند الحكومة وذلك بنشر الأكاذيب والدعاية الحكومية”.
غياب عنصر الشباب
ولم تختلف المظاهرات العشر التي نظمت في بلدة مونتارجيس منذ 19 يناير/كانون الثاني الماضي عن بعضها البعض. فهي تستقطب ما بين 2000 إلى 2500 متظاهر في جو بهيج يسوده الغناء والرقص. لكن ما ميز المظاهرة التي نظمت اليوم هو غياب الشباب والطلاب مقارنة بالأسبوع الماضي. السبب يعود حسب مسؤول نقابي إلى عدم وجود جامعة ومدارس عليا في مونتارجيس. مصدر آخر أكد لفرانس24 أن نصف المتظاهرين هم مسنون متقاعدون.
وأنهى دياو عنابي، ممثل نقابة “القوة العاملة”: “بعض الأشخاص يقولون لنا تعبنا من المظاهرات الهادئة ونريد تغيير طريقتنا في التظاهر. لكن نجيب دائما بأننا ضد العنف وتكسير ممتلكات الناس أو الدولة. لكن في نفس الوقت هناك خشية من أن تصل أعمال العنف التي رأيناها في باريس وفي مدن أخرى مثل نانت بغرب فرنسا إلى هنا. لا ندري كل شيء بات اليوم ممكنا”.
المصدر: فرانس24