قد لا يكون من السهل على النظام الإيراني والمنظومة السياسية التي تقف خلف الموقف النووي والعلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورسم حدودها وخطوطها العودة إلى ممارسة لعبة السير على حافة الهاوية، أو أن تستخدم الزيارة التي يقوم بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي لقطع الطريق على قرار إدانة جديد قد يصدر عن اجتماع مجلس حكام الوكالة، أو التخفيف من سلبياته وما يمكن أن يؤدي إليه من إمكانية إحالة الملف الإيراني من جديد إلى مجلس الأمن الدولي ومخاطر اللجوء إلى تفعيل آلية الزناد وهدم ما تحقق في القرار 2231 الذي أخرج طهران من البند السابع وجمد العقوبات الدولية ضدها وعليها.
يبدو واضحاً من النتائج التي خرجت بها زيارة مفتشي الوكالة الدولية إلى المنشآت النووية الإيرانية التي سبقت زيارة غروسي أنها تصب في إطار وسياق تسهيل التوصل إلى تفاهم جدي مع الزائر الدولي النووي، إذ تخلت طهران عن كل المحاذير والشروط التي وضعتها خلال الأشهر الماضية في تعاملها مع أسئلة الوكالة حول ثلاثة مواقع استخدمت لأنشطة سرية بعيداً من أعين الوكالة الدولية ومفتشيها.
وقد يكون الدافع وراء التعاون الإيجابي الإيراني مع الوكالة وأسئلتها عدة عوامل، بينها:
أولاً: محاولة مقايضتها مع ما حققته في مجال التخصيب والوصول إلى نسبة 60 في المئة، بالتعامل الإيجابي مع أسئلة الوكالة، ثم تزايد الخوف والقلق الإيرانيين من إمكانية انتقال أزمة الثقة مع الوكالة إلى أزمة عسكرية حقيقية مع تصاعد التهديد الإسرائيلي بإمكانية الذهاب إلى خيار القيام بعملية عسكرية منفردة، خصوصاً أن طهران كانت تتهم الوكالة الدولية بتبني الموقف الإسرائيلي في إصرارها على الوصول إلى المواقع السرية المختلف عليها، وأن هذا التعاون يحاول سحب ورقة تل أبيب وقطع الطريق على إمكانية حصول تأييد أو دعم دولي لأي تحرك إسرائيلي.
ثانياً: السعي إلى توظيف زيارة غروسي في بناء جسور تواصل دبلوماسية وسياسية مع الإدارة الأميركية، أي توجيه رسالة إيجابية تفيد باستعدادها للذهاب إلى التفاوض وإعادة تفعيل الحوار الدبلوماسي الذي بدا بشكل غير مباشر بينهما والتعاون لإعادة استئناف المفاوضات وإعادة إحياء الاتفاق النووي بأي صيغة يمكن التفاهم على طبيعتها.
ثالثاً: الرسالة الإيرانية الإيجابية التي قد يحملها غروسي إلى الطرف الأميركي وإمكانية تجاوب واشنطن معها، قد تستخدمها طهران في التخفيف من التصعيد الذي تمارسه الترويكا الأوروبية خلال الأشهر الأخيرة، بعد أن تخلت هذه الدول عن دور التهدئة ومحاولة تدوير الزوايا والمواقف الحادة بين طهران وواشنطن، وانتقلت إلى إعلان مواقف أقرب إلى العدائية والتصعيدية، سواء في مجال العقوبات الاقتصادية، أو في توجيه الاتهامات للنظام بانتهاك حقوق الإنسان، أو في محاولة إدراج قوات حرس الثورة على لائحة المنظمات الإرهابية.
قد لا تكون القراءة التي قدمتها عضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركي شيرين هانتر التي سبق وكانت جزءاً من كادر وزارة الخارجية الإيرانية أيام الشاه السابق، بأن طهران “إذا أرادت التواصل مع واشنطن، فعليها أن تقوم بذلك بنفسها، لأن الوسطاء لديهم مصالحهم، وقد تفسر الرسائل بشكل غير صحيح، والحوار مع أي دولة لا يعني الموافقة على سياساتها، لأن الأعداء يتحاورون مع بعضهم البعض”، هي قراءة أقرب إلى واقع ما يجري خلف الكواليس من تواصل مباشر أو غيره بين طهران وواشنطن، خصوصاً بعد استنفاد الوساطات الإقليمية، سواء عبر القنوات القطرية أو العمانية، وأخيراً العراقية التي سمحت لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان تكرار كلامه عن رسائل أميركية.
إضافة إلى الإشارات الإيجابية التي تصدر عن مسؤولين في الإدارة الأميركية، حول أهمية العودة إلى المسار الدبلوماسي، مع مراعاة الحساسية الأميركية عالية الأثر عن الدور الإيراني في الحرب الروسية على أوكرانيا وما فيها من مراعاة للخصوصية والموقف الأوروبي وحساسيته.
قد لا تكون أيضاً الرغبة الإيرانية في تسريع آليات إذابة الجلد أو هدم الجدران الحائلة أمام حوار جدي ومباشر بين طهران وواشنطن بالمستوى نفسه لدى الطرف الأميركي من دون نفيها أو إلغاء وجودها لدى الإدارة الأميركية، إلا أن الواضح من الأداء الأميركي أنه لا يريد اتخاذ خطوة حاسمة في هذا الاتجاه، لأن الأمور لم تنضج بعد، ولم يبد النظام الإيراني استعداده لتعاون جدي في مختلف الملفات العالقة بين الطرفين، سواء ما يتعلق بالانفتاح الإيراني باتجاه الشرقين الروسي والصيني، وما ينتج عنه من تعميق العلاقة العسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً مع الجانب الروسي.
يضاف إلى ذلك أيضاً استمرار الخلاف حول حجم الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط الذي لا يساعد على الاستقرار والتوصل إلى حلول قابلة للاستمرار، فضلاً عما يشكله برنامجا الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية من تهديد لأمن واستقرار منطقة غرب آسيا، وأن استئناف الحوار الدبلوماسي وإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي يعيد تفعيل عمليات الرقابة الضرورية على الأنشطة النووية يشكل جزءاً من الهواجس الأميركية والإقليمية وليس كلها.
طهران قد لا تكون مدركة كذلك أن الفرصة أمام حل سياسي وتفاوضي ما زلت ضيقة في المدى المنظور، وأن المرحلة المقبلة قد تشهد تصعيداً تكتيكياً، وليس شاملاً ضد أهداف نووية واستراتيجية داخل الأراضي الإيرانية قد تقوم بها تل أبيب بحيث تقف تداعياتها على الحد الفاصل بين الحرب الشاملة والضربات المدروسة، وربما قد تكون بموافقة وتعاون أميركي غير معلن أو يسمح بالتملص من المسؤولية عنه. تزامناً مع اعتماد خيار الاستمرار وتصعيد العقوبات وتضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني الذي بات يشكل قلقاً للنظام ويهدد استمراريته واستقراره بشكل جدي.
المصدر: إندبندنت عربية