ينتهي عام 2022 ومعدلات التضخم في معظم الاقتصادات الكبرى عند أعلى مستوياتها خلال نحو أربعة عقود، وعلى رغم أن ارتفاع التضخم بدأ يتباطأ بنهاية العام إلا أنه يظل عند مستويات غير مسبوقة تدور حول نسبة 10 في المئة بالاقتصادات المتقدمة، وتتباين في الاقتصادات النامية والصاعدة ما بين أعلى من ذلك قليلاً إلى ما يزيد على 80 في المئة كما في تركيا.
ومثلما حدث مع توقعات المؤسسات الدولية والاقتصاديين ومحللي البنوك الاستثمارية وشركات الاستشارات بالنسبة إلى النمو الاقتصادي العالمي، حدث الأمر نفسه مع توقعات معدلات التضخم لكن الخطأ الأكبر كان في تقديرات البنوك المركزية الرئيسة حول العالم لمعدلات التضخم المستقبلية هذا العام، ومع فتح معظم الاقتصادات مطلع عام 2021 بعد فترات الإغلاق لمكافحة انتشار فيروس وباء كورونا (كوفيد-19)، كانت معظم التوقعات أن الارتفاع الكبير في نسبة التضخم مسألة موقتة وأنها زيادة مرحلية نتيجة الإغلاق التام للنشاط الاقتصادي في عز أزمة الجائحة.
وعلى هذا الأساس لم تكن البنوك المركزية متحمسة لوقف سياسة التيسير النقدي التي كانت تتبعها لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم بأضعاف النسب المستهدفة من قبل تلك البنوك، وما حدث هو أن معدلات التضخم استمرت في الارتفاع وظلت لأطول مما كان مقدراً من الجميع تقريباً، ويتوقع أن تستمر لما بعد هذا العام حتى لو تباطأ معدل ارتفاعها.
ولا يعني تباطؤ زيادة التضخم أن الأسعار ستنخفض بسرعة، بل إن استمرار ارتفاع التضخم منذ عام 2021 وخلال 2022 يعني أن ارتفاع الأسعار باق معنا لمدة.
استمرار التضخم
ويعكس معدل التضخم الذي يقاس بمؤشر أسعار المستهلكين بشكل أساس ثبات أو زيادة الطلب في الاقتصاد مقابل نقص العرض، أما نقص العرض فيعود لعوامل عدة منها كلفة الإنتاج أو تباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل عام، وما حدث خلال أزمة كورونا من ضخ تريليونات الدولارات من السيولة في الاقتصاد، إضافة إلى خفض معدلات الفائدة لنحو صفر تقريباً في وقت توقف فيه الإنتاج للسلع والخدمات أو كاد نتيجة إغلاق الاقتصاد، زاد الضغوط التضخمية بشكل غير مسبوق.
وكان التوقع أن تلك الزيادة الحادة ستنتهي بسرعة بمجرد عودة النشاط القوي وزيادة العرض بعد فتح الاقتصاد بنهاية فترة أزمة الوباء.
وقلل صندوق النقد الدولي في تقاريره حول آفاق الاقتصاد العالمي نهاية عام 2021 من أي أخطار لضغوط تضخمية مع عودة النشاط الاقتصادي بعد نهاية فترات الإغلاق للحد من انتشار وباء كورونا.
واعتبر الصندوق أن “صدقية البنوك المركزية وعوامل بنيوية في الاقتصاد العالمي تحدان من أي أخطار محتملة للتضخم”.
وصدقية البنوك المركزية هي التي أصبحت على المحك بنهاية 2021 مع فشلها في توقع استمرار ارتفاع معدلات التضخم، لذا بدأت تلك البنوك المركزية الرئيسة في تشديد السياسة النقدية عبر رفع أسعار الفائدة والتوقف عن برامج شراء سندات الدين الحكومي وللشركات، لكن ذلك لم يوقف منحى الارتفاع في معدلات التضخم طوال عام 2022، فعلى رغم رفع أسعار الفائدة أكثر من مرة في الاقتصادات الرئيسة من صفر تقريباً إلى أكثر من ثلاثة في المئة، إلا أن معدلات التضخم استمرت في الارتفاع.
ومع أن الحرب في أوكرانيا عقدت مسألة ارتفاع معدلات التضخم بسبب زيادة أسعار الطاقة والغذاء، وهي مكون أساس في مؤشر أسعار المستهلكين، إلا أن منحى الارتفاع الذي بدأ عام 2021 يرجع لأسباب أخرى أهم تتعلق بالسياسات النقدية والمالية في الاقتصادات الرئيسة.
ضغوط التيسير النقدي
ومن أهم أسباب ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة هي برامج ما سمي “التيسير الكمي” للبنوك المركزية، إضافة إلى تقديم الحكومات الدعم النقدي المباشر للأسر في فترات الإغلاق خلال أزمة وباء كورونا تلك السيولة الكبيرة زادت من الطلب بشكل هائل في ظل ضعف الإنتاج بالتالي نقص العرض.
كما أن كلفة الاقتراض المنعدمة تقريباً نتيجة أسعار الفائدة عند الصفر سهلت الزيادة الهائلة في السيولة مما شكل ضغطاً تضخمياً غير مسبوق، وعلى رغم رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة أكثر من مرة خلال عام 2022 إلا أنها لم تخاطر بسحب السيولة بشدة من السوق عبر طرح ما على دفاترها من سندات دين حكومي في السوق.
كما يؤخذ أيضاً على البنوك المركزية ترددها في تشديد السياسة النقدية لخشيتها من الأضرار أكثر بفرص النمو الاقتصادي الذي لم يتعاف بالقدر الكافي بعد فتح الاقتصاد خلال 2022، وذلك ما جعل الحديث يتصاعد عن احتمالات الركود التضخمي بالاقتصادات الرئيسة، وفي مقدمها الاقتصاد البريطاني إذ إنه الأسوأ أداء بين مجموعة الدول السبع الكبرى.
تضافر سياسة التيسير النقدي مع سياسة مالية مرنة من قبل الحكومات أديا إلى ارتفاع هائل في الدين العام وعجز الموازنة لتمويل حزم دعم الشركات والأعمال والمواطنين خلال فترة أزمة كورونا وما بعدها، وذلك ما جعل الحكومات تخفض الإنفاق الاستثماري خلال العام وأسهم في تباطؤ النمو الاقتصادي الذي كان يمكن أن يخفف من ضغط ارتفاع معدلات التضخم.
كلفة المعيشة
ومن أهم آثار ارتفاع معدلات التضخم بالطبع هو معاناة المجتمعات من ارتفاع أسعار السلع الضرورية وخصوصاً الطاقة والغذاء.
وشهد عام 2022 معاناة مئات ملايين الأسر في مختلف بلدان العالم الغنية منها والفقيرة مع ارتفاع كلفة المعيشة بشكل مطرد نتيجة زيادة التضخم، وأدى ذلك إلى تظاهرات واحتجاجات في دول عدة ومنها دول أوروبا.
وعلى رغم محاولة الحكومات التخفيف من الأعباء الاجتماعية الناجمة عن ارتفاع كلفة المعيشة إلا أن قدرتها بدت محدودة، ففي معظم الدول قدمت الحكومات دعماً للأسر لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، إما بشكل دعم مباشر أو فرض سقف لكلفة فواتير الطاقة للاستهلاك المنزلي، وتتحمل الموازنة العامة فارق الأسعار وتدفعه للشركات، مما أثقل كاهل الموازنات وفاقم مشكلة العجز والدين العام، فضلاً عن أن ذلك الدعم الحكومي للأسر من أجل مواجهة ارتفاع كلفة المعيشة يشكل في حد ذاته ضغطاً تضخمياً يبقي الأسعار مرتفعة ويسهم في استمرار ارتفاع معدلات التضخم، فالعامل الأهم لكبح جماح التضخم هو تقليل الطلب عبر تشديد السياسة النقدية وفرض الضرائب، وزيادة العرض بتشجيع النشاط الاقتصادي.
وإضافة إلى إثقال كاهل الموازنات العامة ببرامج الدعم لمواجهة ارتفاع كلف المعيشة، فإن التضخم يأكل من القيمة الحقيقية للأجور، وشهدت الأجور والرواتب خلال عام 2022 أسوأ تدهور في قيمتها الحقيقية منذ أكثر من عقدين من الزمن.
ومن شأن تدهور الدخل أن يؤدي إلى تردد الأسر في الإنفاق، وهو ما يعني بالتالي انكماش الناتج المحلي الإجمالي الذي يشكل الإنفاق الاستهلاكي أكبر مكون فيه.
ولا يقتصر تأثر ارتفاع التضخم على الأوضاع المعيشية والاجتماعية، لكن تبعاته السياسية ربما لا تقل أهمية وإن بدت غير مباشرة، فارتفاع معدلات التضخم يتطلب رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة بقوة، ويعني ذلك زيادة العبء على الموازنات الحكومية نتيجة ارتفاع كلفة الدين العام.
وبما أن معظم الحكومات توسعت في الاقتراض خلال فترة أزمة كورونا وما بعدها، فإن التزاماتها تتضاعف مع زيادة سعر الفائدة.
وتضطر الحكومات إلى تبني سياسات تقشفية ذات تبعات سياسية، إما من طريق زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق على الخدمات العامة.
المصدر: “إندبندنت عربية”